14. استقلال المعمدانيِّين: الصعوبات والمزايا
‘‘لأنَّهُ حَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أو ثَلاثَةٌ بِاسْمي فهناكَ أكونُ في وسطِهِمْ’’.
(متَّى 18: 20)
تُحيط مجموعةٌ من المفاهيم الخاطئة والمسائل والتهديدات والتحديَّات بممارسة الاستقلال المعمدانيّ. إلَّا أنَّ المزايا تفوق الصعوبات التي تواجه الاستقلال الذاتيّ؛ فالكنائسُ المعمدانيَّة مستقلَّةٌ وخاضعةٌ لربوبيَّة المسيح، ولا فرد أو مجموعة من المعمدانيِّين خارج الكنيسة لديه السُّلطة أن يُملي على الكنيسة العقيدةَ والنظامَ الأساسيَّ لإدارتها.
بعض المفاهيم الخاطئة عن الاستقلال المعمدانيّ
تتألَّفُ الطائفة المعمدانيَّة من كِياناتٍ مختلفةٍ بما في ذلك جماعات المؤمنين المحلِّيَّة، والجمعيَّات والمجامع الوطنيَّة، ومجموعات أُخرى متنوِّعة. ووَفقًا لنظام الإدارة المعمدانيّ، يُعدُّ كلُّ كِيانٍ من هذه الكيانات مستقلًّا.
لكنْ يُساء أحيانًا فَهمُ هذه العلاقة المستقلَّة، فمثلًا يرى بعض الأشخاص أنَّ الحياةَ المعمدانيَّةَ ‘‘مستويات’’ مثل مستوى الكنيسة المحلِّيَّة، ومستوى الجمعيَّات، ومستوى الطائفة. ويدَّعي آخَرون أنَّ هذا المفهوم يعني أنَّ المستويات الأعلى تضمُّ المستويات الأدنى ولها سُلطة عليها، لكنَّ هذا ليس النظامَ المعمدانيَّ للإدارة؛ فالطائفة لا تضمُّ الجمعيَّات ولا العكس أيضًا، بل على النقيض، كلٌّ منهما كِيانٌ معمدانيٌّ مستقلٌّ بذاته، ومن ثَمَّ فالإجراءات التي تتَّخذُها الطائفة على مستوى الأمَّة ليست لها سُلطةٌ على الكِيانات المعمدانيَّة أو الجمعيَّات أو الكنائس. وبالمثل ليست لدى الكنيسة أيضًا سُلطةٌ على أيَّة جمعيَّة معمدانيَّة أو على الطائفة. علاوةً على ذلك، من حقِّ الجمعيَّات والطوائف المستقلَّة أن تُحدِّد مَن المقبول فيها أو مَنْ يقع عليه الاختيار ليكونَ رسولًا، أو تُقرِّر بشأن المنظَّمات المعمدانيَّة الأُخرى التي تدخل معها في علاقةٍ أو لا ترتبط بها.
بعض المسائل المتعلِّقة بالاستقلال المعمدانيّ
حتَّى مع فَهم المفهوم الأساسيِّ للاستقلال الذاتيِّ المعمدانيّ، فإنَّ تطبيقَه في ظلِّ تعقيد الحياة المعمدانيَّة المنظَّمة ليس دائمًا واضحًا. وحين تتألَّفُ الحياة المعمدانيَّة في الأساس من جماعاتٍ صغيرةٍ من المؤمنين المعمَّدين بالماء، يكون الاستقلال مسألةً بسيطةً نسبيًّا.
ولأنَّ الجمعيَّات والمجامع والطوائف على مستوى الوطن؛ ولأنَّ المؤسَّسات المتنوِّعة نشأت بوصفها جُزءًا من الحياة المعمدانيَّة، فإنَّ مسائلَ الاستقلال الذاتيِّ ليسَتْ بسيطةً تمامًا مثلما كانت قبلًا. مثلًا لا تزال تُطرَح أسئلةٌ تتعلَّق باستقلال المؤسَّسات والجامعات المعمدانيَّة وكِيانات رعاية الأطفال وكبار السنِّ والمراكز الطبِّيَّة، فإذا انتَخَبَ كِيانٌ معمدانيٌّ مثل الطَّائفة المعمدانيَّة كلَّ أمناء مؤسَّسة معمدانيَّة أُخرى أو بعضَهم، فما الاستقلال الذي يُمكن أن تتمتَّع به مثل هذه المؤسَّسة؟
تتعلَّق مسائل الاستقلال الأخرى بجماعات المؤمنين المحلِّيَّة، ولبعض هذه المسائل علاقةٌ بإنشاء كنائسَ جديدة. فمثلًا يدعو أحد المناهج المؤسَّسة المعمدانيَّة والطائفة والكنيسة أن ترعى جماعةً محلِّيَّةً جديدة من المؤمنين، وعادةً ما لا يكون اختيار راعي الكنيسة تمامًا في أيدي جماعة المؤمنين الناشئة حديثًا، بل يتضمَّن ذلك الكِيانات الأُخرى الراعية، ولا يعدُّ ذلك انتهاكًا للاستقلال؛ لأنَّ الجماعة لم تتكوَّنْ لتصيرَ كنيسةً بعدُ.
بعض التهديدات المحتمَلة للاستقلال المعمدانيّ
اليوم يُواجه الاستقلالُ المعمدانيُّ الذاتيُّ بعض التهديدات التي تأتي من خارج جماعات المؤمنين المحلِّيَّة ومِن داخلها. وتأتي التحدِّيات من خارج جماعات المؤمنين عندما تُحاول بعضُ المنظَّمات أن تُمليَ على الكنيسة ما تُؤمن به، وكيف تقود خدمتها، وتُمارس الحكومات أحيانًا مثل هذا الضَّغط. وقد قاوَم المعمدانيُّون ذلك وتمسَّكوا بعقيدتهم التي تؤمنُ بالحرِّيَّة الدينيَّة وفَصْل الكنيسة عن الدولة.
قد تُمارسُ المنظَّمات المعمدانيَّة خارج الكنيسة مثل هذا الضَّغط. ويُمكن الاستشهاد بمثلٍ على ذلك يظهرُ واضحًا في الجهود التي تبذلها الجمعيَّات المعمدانيَّة أو الطوائف الوطنيَّة لإجبار الكنائس على قبول بعض بيانات عقائديَّة معيَّنة بالتَّهديد بعدم استمرار الشراكة، أو سحب الدعم الماليّ، أو كلا الأمرَين إذا لم تفعَلْ ذلك.
رغم أنَّ هذه الجهود قد تنتهك الاستقلال الذاتيَّ للكنيسة المحلِّيَّة، فينبغي أن يؤخَذَ في الحسبان أنَّ كلَّ منظَّمةٍ معمدانيَّةٍ مستقلَّةٍ ذاتيًّا، ولها الحقُّ في تحديد تلك الكنائس التي تدخل معها في شركة. علاوة على ذلك، يجب ألَّا تخضع الكنائس لمثل هذه الضُّغوط، بل أن تتمتَّعَ بالحرِّيَّة، وتفعل ما تؤمن به أنَّه مشيئةُ المسيح لها. فمثلًا يُمكن أن تقولَ الجمعيَّة المعمدانيَّة ‘‘لا’’ لِما تريده إحدى الكنائس، والعكس صحيح.
يظهر التَّهديد للاستقلال الذاتيِّ من داخل الكنيسة حين لا يُمارس الأعضاء مبادئ الكتاب المقدَّس، ويستسلمون للضُّغوط من الخارج. وعلى أعضاء الكنيسة أن يتغلَّبوا على أيِّ فتورٍ أو جهلٍ أو خوفٍ قد يُسبِّب لهم التخلِّي عن مفهوم الاستقلال الذاتيِّ الذي يستند إلى تعاليم الكتاب المقدَّس.
بعض التحدِّيات المرتبطة بالاستقلال المعمدانيِّ الذاتيّ
تحتاج بعض الأمور إلى معالجةٍ كي يعمل استقلال الكنيسة بطريقةٍ إيجابيَّة. مثلًا ليسَتْ للطَّائفة سُلطة على كنيسةٍ مضطربة. فإذا كانت إحدى الكنائس تتصرَّف بطريقةٍ مخزِية، فلا تستطيع الطَّائفة أن تطلب أيَّ تغييرٍ في مثل هذا السلوك، أو حتَّى تسعى إلى عدم الاعتراف بها بوصفها كنيسةً ‘‘معمدانيَّة’’. وإذا كانت إحدى الكنائس تُعاني جرَّاءَ صراع داخليّ، فلا يُمكن أن يفرضَ أيُّ كِيانٍ في الطائفة عليها حلًّا ما. وإذا عانَتْ كنيسةٌ ما جرَّاءَ أزمةٍ ماليَّة، فليسَتِ الطائفة مُطالَبةً بأن تُنقذَها من هذه الأزمة حتَّى إنْ طلبَتِ الكنيسةُ المساعَدة من منظَّمةٍ في الطائفة المعمدانيَّة؛ فهي بطلب المساعدة لا تتنازل عن استقلالها الذاتيّ.
يتعلَّق أمرٌ آخَرُ برعاة الكنائس وغيرهم من الخُدَّام الذين تعيِّنهم الكنائس والمنظَّمات المعمدانيَّة المختلفة؛ فالطَّائفة لا تملكُ سُلطة، سواء في تأديب هؤلاء الأشخاص أم حمايتهم؛ لأنَّ منظَّماتٍ معمدانيَّةً مستقلَّة هي التي عيَّنتهم، ولم تعيِّنهم الطائفة.
يتعلَّقُ تحدٍّ آخر بتنفيذ المؤمنين لتكليف الكتاب المقدَّس بالتركيز على الإرساليَّات والتعليم المسيحيِّ والأعمال الخيريَّة. وعند تنفيذ الاستقلال إلى أقصى درجة، فإنَّه يؤدِّي إلى العزلة التي قد تَعوقُ الكنيسة من إنجاز كلِّ ما في وُسعها في ما يتعلَّق بالإرساليَّات والخدمة.
عند تفسير الاستقلال الذاتيِّ بما يعني أنَّ الأفرادَ أو الكنائسَ أحرارٌ لفعل ما يروقهم، تكون النتائج سلبيَّة؛ إذ يجب أن تكونَ ربوبيَّةُ المسيح مركَزيَّةً دائمًا، فالأفراد والكنائس أحرارٌ في فعل ما يُرضي المسيح ويسرُّه.
لقد سعى المعمدانيُّون إلى التعامل مع هذه الآثار السلبيَّة المحتمَلَة على الاستقلال الذاتيِّ بواسطة التعاوُن الطوعيّ (وهذا هو موضوع المقالة المقبلة من هذه السلسلة).
مزايا الاستقلال الذاتيِّ المعمدانيّ
لماذا نحتفظ بالاستقلال الذاتيِّ إذا كانت تُواجهه صعوبات؟ السببُ الأساسيُّ هو أنَّ الاستقلالَ الذاتيَّ يستندُ إلى حقِّ الكتاب المقدَّس. وإذا لم يكُن هناك سوى هذا السبب، فهو كافٍ ليجعلَ المعمدانيِّين يتمسَّكون بثباتٍ باستقلال الكنائس. يُساعد الاستقلالُ الذاتيُّ المعمدانيِّين أيضًا في الحياة وَفقًا لمفاهيمَ أساسيَّة أُخرى، مثل الإدارة الجماعيَّة للكنيسة، وكهنوت جميع المؤمنين، والمقدرة الممنوحة للنَّفْس. علاوةً على ذلك، يسمحُ الاستقلالُ الذاتيُّ لكلِّ جماعةٍ من المؤمنين أن تُحدِّد أفضل السبل لخدمة المجتمع حيث توجد، والوصول إلى أفراده. ويُمكن أن يُسهِم الاستقلالُ الذاتيُّ للكنائس في تعزيز المرونة والإبداع.
يُعزِّز الاستقلالُ الذاتيُّ للكنائس حقيقةَ أنَّ كلَّ عضوٍ في الكنيسة المعمدانيَّة مسؤولٌ عن الكنيسة. ويُمكن أن يقودَ هذا الشعورُ بالمسؤوليَّة الأعضاء إلى التمتُّع بهُوِيَّةٍ قويَّةٍ في الكنيسة وأداء دَورهم في تعزيز صحَّة الكنيسة وتنفيذ خدماتها.
علاوةً على ذلك، يقدِّم الاستقلالُ الذاتيُّ دفاعًا في القضايا المتعلِّقة بدعاوى المسؤوليَّة؛ فالطائفة ليسَتْ مسؤولةً عن تصرُّفات الجماعة المحلِّيَّة، التي بدورها ليسَتْ مسؤولةً عن تصرُّفات أيَّة كنيسةٍ أُخرى أو كيِانٍ في الطَّائفة المعمدانيَّة.
الخلاصة
احتفظت الكنائس المعمدانيَّة بالاستقلال الذاتيِّ على مرِّ العصور، وقدَّمت تضحِيات كبيرة. وعلى هذا الجيل أن يجتهدَ في إيصال هذا المبدأ المبنيِّ على الكتاب المقدَّس إلى الأجيال المقبلة.
‘‘يرى كثيرٌ من المعمدانيِّين أنَّ الاستقلالَ الذاتيَّ أصبحَ فَوضَويًّا، وهذا حقيقيٌّ حين تقول الكنيسة أو أحد المعمدانيِّين: “أستطيع أن أفعلَ ما أشاء”. في الواقع، على الكنيسة والمؤمنين المعمدانيُّون أن يفعلوا ما يُرضي المسيح أو ما يشاء أن يفعله’’.
هيرشل هوبس
اقتباسٌ من ‘‘الإيمان المعمدانيُّ والرسالة’’